الإعلامي/ خضران الزهراني
فن التريث ونتائج الاستعجال
في زحمة الحياة، وبين صخب الطموحات والأحلام، كثيرًا ما نُدفع إلى اتخاذ قرارات سريعة، نخوض التجارب بلهفة، ونرسم الأحلام بخطوات متسارعة. نعتقد أن الإنجاز مرهون بالسرعة، وأن من يتأخر يفوته القطار. لكن الواقع يُثبت لنا في كل مرة أن بعض الأمور لا تُؤتى ثمارها إلا إذا نضجت “على نار هادئة”.
قيمة التأني في زمن السرعة
في عالمٍ تحكمه السرعة: في الأخبار، في التكنولوجيا، حتى في المشاعر… يصبح التأني فضيلة مفقودة. لكن الحكيم من يعرف متى يسرع، ومتى يتأنى. فليست كل الفرص تستحق العجلة، وليست كل اللحظات قابلة للمجازفة.
خذ مثلًا المزارع، لا يمكنه أن يُسرّع نمو الزرع مهما استعجل. إن استعجل في قطفه، لن يحصد إلا ثمارًا ناقصة النضج، وربما لا تصلح للأكل. هكذا هي الحياة، بعض القرارات تحتاج وقتها لتنضج، وبعض العلاقات تحتاج صبرًا، وبعض المشاريع تتطلب تروّيًا لتُبنى على أساس قوي.
مثال من الواقع: العلاقة العاطفية
كم من علاقة بدأت بسرعة، وانتهت بمرارة؟
شاب وفتاة يلتقون، تنشأ مشاعر سريعة، يرتبطان دون تعارف كافٍ أو فهم عميق، ثم يصطدمان باختلافات لم يكونا قد فكّرا بها. لماذا؟ لأن العجلة أغلقت أعينهم عن الأسئلة المهمة: هل نحن متوافقان فعلاً؟ هل نعرف ما نريد؟ هل نمتلك نفس القيم؟
التأني في العلاقات ليس برودًا، بل هو احترام للمشاعر، وفهم للذات وللآخر. أن تحب على نار هادئة، يعني أن تمنح مشاعرك فرصة أن تنمو دون أن تحترق، وأن تختبر العلاقة في مختلف الظروف قبل أن تبني عليها قرارات مصيرية.
مثال آخر: المشاريع والأعمال
رائد أعمال شاب، يحمل فكرة رائعة، ينطلق بشغف، يجمع أموالًا، يبدأ مشروعه بسرعة، دون دراسة كافية، دون بناء فريق قوي، ودون خطط بديلة. ما النتيجة؟ المشروع ينهار بعد أشهر.
بينما آخر، قد لا يمتلك نفس الفكرة المبهرة، لكنه خطط جيدًا، تأنّى، سأل المختصين، وبدأ على نار هادئة. وربما تأخر في الظهور، لكنه حين ظهر، كان أكثر استعدادًا وثباتًا.
العجلة تورث الندم
في كثير من الأحيان، لا يُدرك الإنسان خطأه إلا بعد فوات الأوان. كمن يقفز من السفينة ظنًا أن اليابسة قريبة، ثم يكتشف أنه كان عليه أن ينتظر.
كم من كلمة قيلت في لحظة غضب، هدمت علاقة طويلة؟ وكم من قرار مهني اتُّخذ بعجلة، تسبب في خسارة سنوات من الجهد؟ الندم غالبًا ما يكون نتيجة الاستعجال، لا التأني.
الطبخ كنموذج: كل نضجٍ يحتاج نارًا هادئة
من أجمل الأمثلة: الطبخ. الوجبة التي تُطهى بسرعة، لا تكتسب النكهة، بينما الطعام الذي يُطهى على نار هادئة، تتداخل نكهاته، ويخرج بطعمٍ متكامل. هكذا أنت أيضًا… لا تستعجل نضجك، لا تتوقع من نفسك أن تحقق كل شيء الآن. دع أفكارك تنضج، ودع نفسك تتشكّل، ولا تخف من الوقت، فالعبرة ليست في السرعة، بل في الجودة.
خاتمة: درب النجاح لا يحتاج عجلة، بل وعي
أن تعيش على نار هادئة لا يعني أن تؤجل أحلامك، أو أن تترك الفرص تضيع، بل أن تمتلك الوعي الكافي لتُميز بين الفرصة الحقيقية والوهم، بين ما يستحق المغامرة وما يستحق التريث.
في كل أمر من أمور حياتك، تذكّر: ما نضج بسرعة، يذبل بسرعة. وما نضج على مهل، يبقى أطول، ويثمر أكثر.
فاختر لنفسك نارًا هادئة، وامضِ… بثبات.